كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر، والحق يقول عن الجبال: {والجبال أَرْسَاهَا} ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل، فأنت لا تقول: أرسيت الورقة على المكتب، ولكنك تقول: أرسيت لوح الزجاج على المكتب ليحميه، وأنت بذلك ترسي شيئًا له وزن وثقل.
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا، والوَتِد- كما نعلم- ممسوك من الموتود والمثبت فيه، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه تخشينة لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه، وهنا يقول الحق: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} {نتقنا} أي قلعنا، وهناك قول آخر: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت...} [النساء: 154].
وقال الحق أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور...} [البقرة: 63].
وهنا اختلاف بين نتق ورفع؛ لأن الجبل راسٍ في الأرض، وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع، ونتقا تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم، أي أن هناكَ ثلاث عمليات: نتق أي نزع وخلع، ثم رفع، ثم جعله سبحانه ظلة لهم، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما. والحق يقول: {وإذ} أي اذكر إذ نتقنا الجبل، أي نزعناه وخلعناه من الأرض، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل، وصار الجبل ظلة عذاب؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له: إن أحكام هذه التوراة شديدة. وللإِنسان أن يتساءل: لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر؟. وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر، على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه فصار فوقهم. {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
والظن هو رجحان قضية، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين، مثل قوله الحق: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ}.
وحين بقيت الحالة هذه، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق: {... خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
و{خذوا} فعل أمر، والأمر يقتضي آمرا، ولابد له من شيء يأمر به. وكلمة القوة هذه هي الطاقة الفاعلة، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لأن الكون الذي تراه مسخرًا ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل، بل هو فاعل دائما إذا أمُر، وكما قلنا من قبل: لم تغضب الشمس على الناس وقالت: لن أطلع هذا اليوم، وكذلك لم يمتنع الهواء، وأيضًا لا يرفض الحمار مثلًا أن يحمل الروث، أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له ب البرذعة ليجعله ركوبة متميزة، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة. {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظرًا لأنه مقهور وليس له تكليف، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي، ومع هذا الاختيار فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئًا مع أن بها قوام حياته، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له: دق، والرئة كذلك وحركة التنفس، والحركة الدودية في الأمعاء، والحالب، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال، هذا اسمه غريزة أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري.
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه. أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع، وحين يقول له مُضيفه- على سبيل المثال-: أنت لم تذق هذا اللون من اللحم، فيأكل. ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه.
ونعرف جميعًا هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه، ويطبخ الملوخية ليأكلها، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية، رغم تشابه أوراقهما. لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب، وهما يفعلان ذلك بالغريزة، فالمحكوم بالغريزة له نظام، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها.
وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر. فالكهرباء مثلًا كانت موجودة قبل أن ننتفع بها، لكن بعد ذلك انتفعنا بها، وكذلك الجاذبية، كانت موجودة في الكون منذ الأزل، لكنا لم ننتبه لها، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في بعض الأمور، وله جهة قهر في البعض الآخر، فهو يشارك الكون في القهر، ويتميز عن بقية المخلوقات- عدا الجن- بالاختيار في أمور أخرى. ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما، عندما يصعد هذا الإنسان سلمًا ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود.
ومثال آخر، نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها، فإن وجدها حاملًا لا يقربها، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع، ومادامت الأنثى قد حملت، فالذكر لا يقربها، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان.
ومن رحمة الله- إذن- أن يكون الإنسان مقهورًا في بعض الأشياء ومختارًا في أشياء أخرى، ب افعل ولا تفعل حتى يختار بين البديلات.
وهنا يقول الحق: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّة} أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد. وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة. وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة. وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية، القانون الأول والثاني والثالث، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه، فإن كان ساكنًا يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه. وإن كان الجسم متحركًا فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك. وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي. أو التعطل، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير، فإنك تظل ساكنًا، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء.
وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس، ثم يضع عليها أطباقًا وأكوابًا، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش.
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة، وقلنا: إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة، والمتحرك يتعطل عن السكون، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ. ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف. ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها، وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة.
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي. والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن، وهو القانون القائل: إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام.
وهكذا نرى قول الحق: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} في الواقع المادي والواقع القيمي. وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها، فالواحد منهم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يقول كلمة معروف، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله. ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة. أو يزني أو يسرق أو يرتشي. وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة. ولذلك نقول: إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين: الأول إن كان ساكنًا عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في افعل، ولا تفعل. فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ. ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب افعل ليحرك الساكن، ولا تفعل ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج.
ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة، ولنعلم أنه لا شيء ينشيء فينا فطرة جديدة؛ لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعًا، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد. بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم؛ لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده. ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها، إذن لابد لهذا الكون من الخالق.
لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيرًا أو تدفع عنهم شرا، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس، وتتعب بمشقة التكليف، فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول فيها: {... خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].